-A +A
علي بن محمد الرباعي
لم ينفصل دور الدكتور غازي القصيبي، التنويري الثقافي، عن دوره الوظيفي، فهو التكنوقراط، والدبلوماسي، وهو المحاضر الكاتب المبدع، ولعله منذ غادر بجسده، دار الفناء لدار البقاء، لم يمر عام، أو ينعقد لقاء مع وزير، أو تحدد مناسبة لتدشين مشروع، أو تقام ندوة، إلا وتحضر ذكرى الفخم على ألسنة وفي مخيّلة شرائح مجتمعية وأجيال.

كنتُ دائماً أتساءل: هل يمكن أن تهب الأقدارُ إنساناً أو مسؤولاً مثل روح وعطاء وولاء وانتماء القصيبي؟ والجواب أن الله يؤتي فضله من يشاء، وما يصعّب تقييم شخصية الراحل أنها تقاطعت فيها والتقت شخصيات، منها، المتنبي، وابن العميد، وإبراهيم ناجي، وعبدالله عريف، وسعود الفيصل، ويوسف الشيراوي، وطه حسين، والعقاد، والحكيم، والمازني، وحمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، وراشد المُبارك، وغيرهم.


بالطبع يمكن أن تصنع الظروف الشخصيات، وتعيد صياغتها، كما أن للبيئة الأسرية أثراً كبيراً سلباً وإيجاباً على من وُلدوا وعاشوا فيها. وبيئة القصيبي التي نشأ فيها بالغة الثراء المادي والروحي والثقافي والمعرفي، وكان يمكن أن تكون هذه المعطيات مُفسدة لشاب مُقبل على الحياة.

اعتنت أسرة القصيبي بابنها عناية فائقة، ما انعكس على الشخصية التي غدت تتسع حساً ومعنى بالقراءة، وعشق الأدب، والشعر تحديداً، وتتبع سِيَر العظماء، ومصادقة الكبار، ما خلق في نفسه تواضعاً غير متكلّف، وكبرياءً لم يطله الغرور.

وبقدر ما حسد البعض «غازي» على محبة القيادة والشعب له، وبرغم كل ما طاوله من أذىً واتهامات في معتقده وأخلاقه، إلا أنه تسامى على كل التفاهات، وتجاوز فكرة تصفية الحسابات، والرغبة في التشفّي والانتقام، فتخطى كل ذلك بجميل الصبر، وحزم الأمر بانصرافه للإنتاج والعمل، كونه الذي يبقى.

لم يتسرّب الكِبرُ ولا العُجب إلى نفس «أبو يارا»، ولم يتبرّم ولم يضق ذرعاً بنقد أو تطاول، وإن كانت له ردوده الساخرة التي يطلقها وهو في قمة الجدّية دون أن تضع من مكانه أو مكانته، ومن الطبيعي أن ينفّس ما يعتمل في نفسه بالكتابة التي كان أحد فرسانها «شعراً وسرداً».

مما يكاد أن تُجمع عليه النُخب، أن غازي كسر الصورة النمطية عن الوزراء، بكسبه ثقة قيادته السعودية، وفوزه بتقدير المواطن السعودي، لا لشيء إلا لكونه يوفّر الحلول، وربما نال استحسان ومحبة شعوب من بلدان عربية وغربية، وهذا الإنجاز قلّ ما يحدث في حياة وزير أو سفير.

احتفظ الوزير السفير المثقف بجميل وطنه عليه، فكان وفيّاً للملوك ومحبباً لنفوسهم، ولذا تمسكت به حكومة بلده إلى آخر يوم في حياته، وبحكم تفانيه في أداء الواجب كما يجب، انغرست محبته في قلوب الناس، فذكروه بالخير وهو بينهم وعقب رحيله، وبرغم كل انشغالاته واشتغالاته، إلا أنه لم يقطع تواصله مع المتظلمين، والقرّاء والمعجبين، وطالبي الشفاعة الحسنة، والخدمة والفزعة.

أحياناً يصف البعض القصيبي بأنه «استثناء» وربما يكون، ونعلم أن جهده وصرامته مع نفسه عززت تجربته، التي بوأته المكان والمكانة، وشخصيته، منها ما هو فطري، ومنها المُكتسب، ولا ريب أن لدعم الدولة ولبذلها للمشاريع التي اقترحها القصيبي أو تبناها كبير السبب والأثر في النجاح، شأنها مع مسؤوليها المخلصين ومواطنيها.

ولعل من الواقعية أن نضع شخصية صاحب «شقة الحريّة» في إطار الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها، وتعاطى معها، وتأثر بها، فالتقييم العادل يقتضي مراعاة الفوارق الزمنية، وثراء أو فقر كل حقبة، والدولة تمنح المساحات لذوي المقام والمسؤوليات.

كثيرون يتغنون بأدب وفكر وحنكة ودبلوماسية القصيبي، لكن يتعذّر عليهم أن يجاروه، مقيماً وراحلاً، وكل مسؤول أدى للوطن ما أمكنه من أمانة المسؤولية يستحق التقدير والتخليد، إلا أن غازي القصيبي كان ذا حسّ إنساني راقٍ، يصعب توفره في كل أحد.